فصل: بَيَانُ مَا تَكُونُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَهِيَ الذُّنُوبُ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الْفَوْرِ وَعَلَى الدَّوَامِ:

لَا يَخْفَى أَنَّ وُجُوبَهَا عَلَى الْفَوْرِ لَا يُسْتَرَابُ فِيهِ، إِذْ مَعْرِفَةُ كَوْنِ الْمَعَاصِي مُهْلِكَاتٍ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَالْعِلْمُ بِضَرَرِ الذُّنُوبِ إِنَّمَا أُرِيدَ لِيَكُونَ بَاعِثًا عَلَى تَرْكِهَا، فَمَنْ لَمْ يَتْرُكْهَا فَهُوَ فَاقِدٌ لِهَذَا الْجُزْءِ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وَذَلِكَ لِكَوْنِ الزِّنَا مُبْعِدًا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى مُوجِبًا لِلْمَقْتِ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي لِأَنَّهَا لِلْإِيمَانِ كَالْمَأْكُولَاتِ الْمُضِرَّةِ لِلْأَبْدَانِ، فَكَمَا أَنَّهَا تُغَيِّرُ مِزَاجَ الْإِنْسَانِ وَلَا تَزَالُ تَجْتَمِعُ حَتَّى تُفْسِدَهُ فَيَمُوتَ دَفْعَةً، كَذَلِكَ تَعْمَلُ سُمُومُ الذُّنُوبِ بِرُوحِ الْإِيمَانِ عَمَلًا تَحِقُّ الْكَلِمَةُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنَ الْهَالِكِينَ.
وَأَمَّا وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَفِي كُلِّ حَالٍ فَهُوَ أَنَّ كُلَّ بَشَرٍ فَلَا يَخْلُو عَنْ مَعْصِيَةٍ بِجَوَارِحِهِ، فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنْ مَعْصِيَةِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَخْلُو عَنِ الْهَمِّ بِالذُّنُوبِ بِالْقَلْبِ، فَإِنْ خَلَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَنِ الْهَمِّ فَلَا يَخْلُو عَنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ بِإِيرَادِ الْخَوَاطِرِ الْمُذْهِلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنْ خَلَا عَنْهُ فَلَا يَخْلُو عَنْ غَفْلَةٍ وَقُصُورٍ فِي الْعِلْمِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ نَقْصٌ وَلَهُ أَسْبَابٌ، وَتَرْكُ أَسْبَابِهِ بِالتَّشَاغُلِ بِضِدِّهَا رُجُوعٌ عَنْ طَرِيقٍ إِلَى ضِدِّهِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ الرُّجُوعُ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْخُلُوُّ فِي حَقِّ الْآدَمِيِّ عَنْ هَذَا النَّقْصِ، وَإِنَّمَا يَتَفَاوَتُونَ بِالْمَقَادِيرِ، فَأَمَّا الْأَصْلُ فَلَابُدَّ مِنْهُ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي حَتَّى أَسْتَغْفِرَ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّةً» الْحَدِيثَ، وَلِذَلِكَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ قَالَ: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: 2] وَإِذَا كَانَ هَذَا حَالَهُ فَكَيْفَ حَالُ غَيْرِهِ.
وَإِنَّمَا أَطْلَقْنَا الْوُجُوبَ فِي كُلِّ حَالٍ، وَالتَّوْبَةُ عَنْ بَعْضِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْفَضَائِلِ لَا الْفَرَائِضِ لِأَنَّا نَعْنِي بِالْوَاجِبِ مَا لَابُدَّ مِنْهُ لِلْوُصُولِ بِهِ إِلَى الْقُرْبِ الْمَطْلُوبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ بَيْنَ الصِّدِّيقِينَ، وَالتَّوْبَةُ عَنْ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَاجِبَةٌ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ كَمَا يُقَالُ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ أَيْ لِمَنْ يُرِيدُهَا، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو فِي مَبْدَأِ خِلْقَتِهِ مِنِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ أَصْلًا، وَلَيْسَ مَعْنَى التَّوْبَةِ تَرْكَهَا فَقَطْ، بَلْ تَمَامُ التَّوْبَةِ بِتَدَارُكِ مَا مَضَى، وَكُلُّ شَهْوَةٍ اتَّبَعَهَا الْإِنْسَانُ ارْتَفَعَ مِنْهَا ظُلْمَةٌ إِلَى قَلْبِهِ كَمَا يَرْتَفِعُ عَنْ نَفَسِ الْإِنْسَانِ ظُلْمَةٌ إِلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ الصَّقِيلَةِ، فَإِنْ تَرَاكَمَتْ ظُلْمَةُ الشَّهَوَاتِ صَارَتْ رَيْنًا كَمَا يَصِيرُ بُخَارُ النَّفَسِ فِي وَجْهِ الْمِرْآةِ عِنْدَ تَرَاكُمِهِ خَبَثًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 14] فَإِذَا تَرَاكَمَ الرَّيْنُ صَارَ طَبَعًا فَيَطْبَعُ عَلَى قَلْبِهِ كَالْخَبَثِ عَلَى وَجْهِ الْمِرْآةِ إِذَا تَرَاكَمَ وَطَالَ زَمَانُهُ غَاصَ فِي جِرْمِ الْحَدِيدِ وَأَفْسَدَهُ وَصَارَ لَا يَقْبَلُ الصَّقْلَ بَعْدَهُ وَصَارَ كَالْمَطْبُوعِ مِنَ الْخَبَثِ، وَلَا يَكْفِي فِي تَدَارُكِ اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ تَرْكُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَلْ لَابُدَّ مِنْ مَحْوِ تِلْكَ الْأَرْيَانِ الَّتِي انْطَبَعَتْ فِي الْقَلْبِ، كَمَا لَا يَكْفِي فِي ظُهُورِ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ قَطْعُ الْأَنْفَاسِ وَالْبُخَارَاتِ الْمُسَوِّدَةِ لِوَجْهِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَحْوِ مَا انْطَبَعَ فِيهَا مِنَ الْأَرْيَانِ.
وَكَمَا يَرْتَفِعُ إِلَى الْقَلْبِ ظُلْمَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ فَيَرْتَفِعُ إِلَيْهِ نُورٌ مِنَ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الشَّهَوَاتِ فَتَنْمَحِي ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ بِنُورِ الطَّاعَةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» فَإِذَنْ لَا يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ فِي حَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِ عَنْ مَحْوِ آثَارِ السَّيِّئَاتِ عَنْ قَلْبِهِ بِمُبَاشَرَةِ حَسَنَاتٍ تُضَادُّ آثَارُهَا آثَارَ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ.
وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: لَوْ لَمْ يَبْكِ الْعَاقِلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا عَلَى تَفْوِيتِ مَا مَضَى مِنْهُ فِي غَيْرِ الطَّاعَةِ لَكَانَ خَلِيقًا أَنْ يُحْزِنَهُ إِلَى الْمَمَاتِ، فَكَيْفَ مَنْ يَسْتَقْبِلُ مَا بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ بِمِثْلِ مَا مَضَى مِنْ جَهْلِهِ وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّ الْعَاقِلَ إِذَا مَلَكَ جَوْهَرَةً نَفِيسَةً وَضَاعَتْ مِنْهُ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ بَكَى عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ، وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْهُ وَصَارَ ضَيَاعُهَا سَبَبَ هَلَاكِهِ كَانَ بُكَاؤُهُ مِنْهَا أَشَدَّ، وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنَ الْعُمْرِ، بَلْ كُلُّ نَفَسٍ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا خَلَفَ لَهَا، وَلَا بَدَلَ مِنْهَا فَإِنَّهَا صَالِحَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَوَصِّلُكَ إِلَى سَعَادَةِ الْأَبَدِ وَتُنْقِذُكَ مِنْ شَقَاوَةِ الْأَبَدِ، وَأَيُّ جَوْهَرٍ أَنْفَسُ مِنْ هَذَا؟ فَإِذَا ضَيَّعْتَهَا فِي الْغَفْلَةِ فَقَدْ خَسِرْتَ خُسْرَانًا مُبِينًا، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَبْكِي عَلَى هَذِهِ الْمُصِيبَةِ فَذَلِكَ لِجَهْلِكَ، وَمُصِيبَتُكَ بِجَهْلِكَ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَنَوْمُ الْغَفْلَةِ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، النَّاسُ نِيَامٌ فَإِذَا مَاتُوا انْتَبَهُوا فَعِنْدَ ذَلِكَ يَنْكَشِفُ لِكُلِّ مُفْلِسٍ إِفْلَاسُهُ وَلِكُلِّ مُصَابٍ مُصِيبَتُهُ، وَقَدْ رُفِعَ النَّاسُ عَنِ التَّدَارُكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} [الْمُنَافِقُونَ: 10- 11].
وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّهُ يَقُولُ حَالَتَئِذٍ: يَا مَلَكَ الْمَوْتِ أَخِّرْنِي يَوْمًا أَتُوبُ فِيهِ إِلَى رَبِّي وَأَتَزَوَّدُ صَالِحًا لِنَفْسِي، فَيَقُولُ: فَنِيَتِ الْأَيَّامُ فَلَا يَوْمَ، فَيَقُولُ: فَأَخِّرْنِي سَاعَةً، فَيَقُولُ: فَنِيَتِ السَّاعَاتُ فَلَا سَاعَةَ، فَيُغْلَقُ عَلَيْهِ بَابُ التَّوْبَةِ فَيَتَغَرْغَرُ بِرُوحِهِ وَتَزْهَقُ نَفْسُهُ، وَلِمِثْلِ هَذَا يُقَالُ: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النِّسَاءِ: 18] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النِّسَاءِ: 17].
مَعْنَاهُ عَنْ قُرْبِ عَهْدٍ بِالْخَطِيئَةِ بِأَنْ يَتَنَدَّمَ عَلَيْهَا وَيَمْحُوَ أَثَرَهَا بِحَسَنَةٍ يُرْدِفُهَا بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَرَاكَمَ الرَّيْنُ عَلَى الْقَلْبِ فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَمَنْ تَرَكَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى التَّوْبَةِ بِالتَّسْوِيفِ كَانَ بَيْنَ خَطَرَيْنِ عَظِيمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَتَرَاكَمَ الظُّلْمَةُ عَلَى قَلْبِهِ مِنَ الْمَعَاصِي حَتَّى يَصِيرَ رَيْنًا وَطَبْعًا فَلَا يَقْبَلُ الْمَحْوَ.
الثَّانِي: أَنْ يُعَاجِلَهُ الْمَرَضُ أَوِ الْمَوْتُ فَلَا يَجِدُ مُهْلَةً لِلِاشْتِغَالِ بِالْمَحْوِ، فَيَأْتِي اللَّهَ بِقَلْبٍ غَيْرِ سَلِيمٍ، وَلَا يَنْجُو إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.

.بَيَانُ أَنَّ التَّوْبَةَ الصَّحِيحَةَ مَقْبُولَةٌ:

اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِذَا اسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا فَهِيَ مَقْبُولَةٌ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ نُورَ الْحَسَنَةِ يَمْحُو عَنْ وَجْهِ الْقَلْبِ ظُلْمَةَ السَّيِّئَةِ كَمَا لَا طَاقَةَ لِظَلَامِ اللَّيْلِ مَعَ بَيَاضِ النَّهَارِ، وَكَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ الثَّوَابِ فِي الْأَعْمَالِ الْخَسِيسَةِ يُوَسِّخُ الثَّوْبَ وَغَسْلَهُ بِالصَّابُونِ وَالْمَاءِ الْحَارِّ يُنَظِّفُهُ لَا مَحَالَةَ، فَاسْتِعْمَالُ الْقَلْبِ فِي الشَّهَوَاتِ يُوَسِّخُ الْقَلْبَ، وَغَسْلُهُ بِمَاءِ الدُّمُوعِ وَحُرْقَةِ النَّدَمِ يُنَظِّفُهُ وَيُطَهِّرُهُ وَيُزَكِّيهِ، وَكُلُّ قَلْبٍ زَكِيٍّ طَاهِرٍ فَهُوَ مَقْبُولٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ ثَوْبٍ نَظِيفٍ هُوَ مَقْبُولٌ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ التَّزْكِيَةُ وَالتَّطْهِيرُ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَمَبْذُولٌ قَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ الْأَزَلِيُّ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى فَلَاحًا فِي قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشَّمْسِ: 9].
فَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ التَّوْبَةَ تَصِحُّ وَلَا تُقْبَلُ كَمَنْ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ وَالظَّلَامَ لَا يَزُولُ وَالثَّوْبَ يُغْسَلُ بِالصَّابُونِ وَالْوَسَخَ لَا يَزُولُ، إِلَّا أَنْ يَغُوصَ الْوَسَخُ لِطُولِ تَرَاكُمِهِ فِي تَجَاوِيفِ الثَّوْبِ فَلَا يَقْوَى الصَّابُونُ عَلَى قَلْعِهِ، فَمِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ تَتَرَاكَمَ الذُّنُوبُ حَتَّى تَصِيرَ طَبْعًا وَرَيْنًا عَلَى الْقَلْبِ، فَمِثْلُ هَذَا الْقَلْبِ لَا يَرْجِعُ، وَلَا يَتُوبُ. نَعَمْ قَدْ يَقُولُ بِاللِّسَانِ: تُبْتُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَقَوْلِ الْقَصَّارِ بِلِسَانِهِ: قَدْ غَسَلْتُ الثَّوْبَ وَذَلِكَ لَا يُنَظِّفُ الثَّوْبَ أَصْلًا مَا لَمْ يُغَيِّرْ صِفَةَ الثَّوْبِ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُضَادُّ الْوَصْفَ الْمُتَمَكِّنَ بِهِ. فَهَذَا حَالُ امْتِنَاعِ أَصْلِ التَّوْبَةِ، وَهُوَ غَيْرُ بَعِيدٍ، بَلْ هُوَ الْغَالِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْمُقْبِلِينَ عَلَى الدُّنْيَا الْمُعْرِضِينَ عَنِ اللَّهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
هَذَا الْبَيَانُ كَافٍ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ، وَلَكِنَّا نُعَضِّدُ جَنَاحَهُ بِبَعْضِ آيَاتٍ وَأَخْبَارٍ، فَكُلُّ اسْتِبْصَارٍ لَا يَشْهَدُ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ لَا يُوثَقُ بِهِ. قَالَ تَعَالَى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غَافِرٍ: 3] وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشُّورَى: 25] وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالتَّوْبَةِ لِمُسِيءِ اللَّيْلِ إِلَى النَّهَارِ، وَلِمُسِيءِ النَّهَارِ إِلَى اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» وَبَسْطُ الْيَدِ كِنَايَةٌ عَنْ طَلَبِ التَّوْبَةِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ».

.بَيَانُ مَا تَكُونُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَهِيَ الذُّنُوبُ:

اعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ تَرْكُ الذَّنْبِ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً كَانَ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِهِ وَاجِبًا، فَمَعْرِفَةُ الذُّنُوبِ إِذًا وَاجِبَةٌ، وَالذَّنْبُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَرْكٍ أَوْ فِعْلٍ. ثُمَّ إِنَّ مَثَارَاتِ الذُّنُوبِ تَنْحَصِرُ فِي أَرْبَعِ صِفَاتٍ: صِفَاتٍ رُبُوبِيَّةٍ، وَصِفَاتٍ شَيْطَانِيَّةٍ، وَصِفَاتٍ بَهِيمِيَّةٍ، وَصِفَاتٍ سَبُعِيَّةٍ.
فَأَمَّا مَا يَقْتَضِي النُّزُوعَ إِلَى الصِّفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ فَمِثْلُ الْكِبْرِ وَالْفَخْرِ وَحُبِّ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَحُبِّ دَوَامِ الْبَقَاءِ، وَطَلَبِ الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى الْكَافَّةِ حَتَّى كَأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى وَهَذَا يَتَشَعَّبُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ غَفَلَ عَنْهَا الْخَلْقُ وَلَمْ يَعُدُّوهَا ذُنُوبًا، وَهِيَ الْمُهْلِكَاتُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي هِيَ كَالْأُمَّهَاتِ لِأَكْثَرِ الْمَعَاصِي.
الثَّانِيَةُ: هِيَ الصِّفَةُ الشَّيْطَانِيَّةُ الَّتِي مِنْهَا يَتَشَعَّبُ الْحَسَدُ وَالْبَغْيُ وَالْحِيلَةُ وَالْخِدَاعُ وَالْأَمْرُ بِالْفَسَادِ وَالْمُنْكَرِ، وَفِيهِ يَدْخُلُ الْغِشُّ وَالنِّفَاقُ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ.
الثَّالِثُ: الصِّفَةُ الْبَهِيمِيَّةُ، وَمِنْهَا يَتَشَعَّبُ الشَّرَهُ وَالْحِرْصُ عَلَى قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَمِنْهُ يَتَشَعَّبُ الزِّنَا وَاللِّوَاطُ وَالسَّرِقَةُ وَأَكْلُ مَالِ الْأَيْتَامِ وَجَمْعُ الْحُطَامِ لِأَجْلِ الشَّهَوَاتِ.
الرَّابِعَةُ: الصِّفَةُ السَّبُعِيَّةُ، وَمِنْهَا يَتَشَعَّبُ الْغَضَبُ وَالْحِقْدُ وَالتَّهَجُّمُ عَلَى النَّاسِ بِالضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ وَاسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ، وَيَتَفَرَّعُ عَنْهَا جُمَلٌ مِنَ الذُّنُوبِ.
فَهَذِهِ أُمَّهَاتُ الذُّنُوبِ وَمَنَابِعُهَا، ثُمَّ تَتَفَجَّرُ الذُّنُوبُ مِنْ هَذِهِ الْمَنَابِعِ عَلَى الْجَوَارِحِ، فَبَعْضُهَا فِي الْقَلْبِ خَاصَّةً كَالْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ وَالنِّفَاقِ وَإِضْمَارِ السُّوءِ لِلنَّاسِ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ، وَبَعْضُهَا عَلَى اللِّسَانِ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ، وَبَعْضُهَا عَلَى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، وَبَعْضُهَا عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيَانِ تَفْصِيلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ.

.انْقِسَامُ الذُّنُوبِ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ:

اعْلَمْ أَنَّ الذُّنُوبَ تَنْقَسِمُ إِلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ، وَقَدْ كَثُرَ الِاخْتِلَافُ فِيهَا فَقَالَ قَائِلُونَ: لَا صَغِيرَةَ وَلَا كَبِيرَةَ، بَلْ كُلُّ مُخَالَفَةٍ لِلَّهِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ، وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ إِذْ قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النِّسَاءِ: 31] وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النَّجْمِ: 32].
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: كُلُّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنَّارِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فِي عَدَدِ الْكَبَائِرِ أَقْوَالٌ، وَذَهَبَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ إِلَى أَنَّهَا سَبْعَ عَشْرَةَ، جَمَعَهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ:
أَرْبَعٌ فِي الْقَلْبِ: وَهِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَتِهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِهِ.
وَأَرْبَعٌ فِي اللِّسَانِ: وَهِيَ شَهَادَةُ الزُّورِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنِ، وَالسِّحْرُ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَهِيَ الَّتِي يُحِقُّ بِهَا بَاطِلًا أَوْ يُبْطِلُ بِهَا حَقًّا، وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بَاطِلًا، وَلَوْ سِوَاكًا مِنْ أَرَاكٍ، سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ.
وَثَلَاثٌ فِي الْبَطْنِ: وَهِيَ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ ظُلْمًا، وَأَكْلُ الرِّبَا وَهُوَ يَعْلَمُ.
وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرَجِ: وَهُمَا الزِّنَا وَاللِّوَاطُ.
وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ: وَهُمَا الْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ.
وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجْلَيْنِ: وَهُوَ الْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ أَنْ يَفِرَّ الْوَاحِدُ مِنِ اثْنَيْنِ وَالْعَشَرَةُ مِنَ الْعِشْرِينَ.
وَوَاحِدَةٌ فِي جَمِيعِ الْجَسَدِ: وَهُوَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَجُمْلَةُ عُقُوقِهِمَا أَنْ يُقْسِمَا عَلَيْهِ فِي حَقٍّ فَلَا يَبَرُّ قَسَمَهُمَا، وَإِنْ سَأَلَاهُ حَاجَةً فَلَا يُعْطِيهِمَا، وَإِنْ يَسُبَّاهُ فَيَضْرِبُهُمَا، وَيَجُوعَانِ فَلَا يُطْعِمُهُمَا.
هَذَا كَلَامُ أبي طالب وَهُوَ قَرِيبٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ تَفْصِيلُهَا بَعْدُ، وَلَا حَدٌّ جَامِعٌ بَلْ وَرَدَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَاتٍ، وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ الذُّنُوبَ مُنْقَسِمَةٌ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ إِلَى مَا يُعْلَمُ اسْتِعْظَامُهُ إِيَّاهَا، وَإِلَى مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا مَعْدُودَةٌ فِي الصَّغَائِرِ، وَإِلَى مَا يُشَكُّ فِيهِ فَلَا يُدْرَى حُكْمُهُ، وَرُبَّمَا قَصَدَ الشَّارِعُ الْإِبْهَامَ؛ لِيَكُونَ الْعِبَادُ عَلَى وَجَلٍ وَحَذَرٍ فَلَا يَتَجَرَّؤُونَ عَلَى الصَّغَائِرِ.
ثُمَّ إِنَّ اجْتِنَابَ الْكَبِيرَةِ إِنَّمَا يُكَفِّرُ الصَّغِيرَةَ إِذَا اجْتَنَبَهَا مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَنْ يَتَمَكَّنُ مِنِ امْرَأَةٍ وَمِنْ مُوَاقَعَتِهَا فَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الْوِقَاعِ مُجَاهِدًا نَفْسَهُ، فَإِنِ امْتَنَعَ لِعَجْزٍ أَوْ خَوْفٍ فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِلتَّكْفِيرِ أَصْلًا.

.بَيَانُ مَا تَعْظُمُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنَ الذُّنُوبِ:

اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَكْبُرُ بِأَسْبَابٍ؛ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَالْمُوَاظَبَةُ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا صَغِيرَةَ مَعَ إِصْرَارٍ، وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ اسْتِغْفَارٍ، فَكَبِيرَةٌ وَاحِدَةٌ تَنْصَرِمُ وَلَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا يَكُونُ الْعَفْوُ عَنْهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ، وَمِثَالُ ذَلِكَ قَطَرَاتٌ مِنَ الْمَاءِ تَقَعُ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى تَوَالٍ فَتُؤَثِّرُ فِيهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُؤَثِّرْ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْأَعْمَالِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ».
وَمِنْهَا أَنْ يَسْتَصْغِرَ الذَّنْبَ؛ فَإِنَّ الذَّنْبَ كُلَّمَا اسْتَعْظَمَهُ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ صَغُرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَكُلَّمَا اسْتَصْغَرَهُ كَبُرَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَصْدُرُ عَنْ نُفُورِ الْقَلْبِ عَنْهُ، وَذَلِكَ النُّفُورُ يَمْنَعُ مِنْ شِدَّةِ تَأَثُّرِهِ بِهِ، وَاسْتِصْغَارُهُ يَصْدُرُ عَنِ الْإِلْفِ بِهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ شِدَّةَ الْأَثَرِ فِي الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمَطْلُوبُ تَنْوِيرُهُ بِالطَّاعَاتِ، وَالْمَحْذُورُ تَسْوِيدُهُ بِالسَّيِّئَاتِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذَنْبَهُ كَجَبَلٍ فَوْقَهُ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَالْمُنَافِقَ يَرَى ذَنْبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَأَطَارَهُ.
وَكَذَلِكَ يَعْظُمُ مِنَ الْعَالِمِ مَا لَا يَعْظُمُ مِنَ الْجَاهِلِ، وَيُتَجَاوَزُ عَنِ الْعَامِّيِّ فِي أُمُورٍ لَا يُتَجَاوَزُ فِي أَمْثَالِهَا عَنِ الْعَارِفِ؛ لِأَنَّ الذَّنْبَ وَالْمُخَالَفَةَ يَكْبُرُ بِقَدْرِ مَعْرِفَةِ الْمُخَالِفِ.
وَمِنْهَا السُّرُورُ بِالصَّغِيرَةِ وَالْفَرَحُ بِهَا، فَكُلَّمَا غَلَبَتْ حَلَاوَةُ الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْعَبْدِ كَبُرَتْ وَعَظُمَ أَثَرُهَا فِي تَسْوِيدِ قَلْبِهِ، كَمَنْ يَقُولُ: أَمَا رَأَيْتَنِي كَيْفَ مَزَّقْتُ عِرْضَهُ، وَكَيْفَ فَضَحْتُهُ حَتَّى خَجَّلْتُهُ، وَكَيْفَ رَوَّجْتُ عَلَيْهِ الزَّائِفَ وَكَيْفَ خَدَعْتُهُ؟ فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ مِمَّا تَكْبُرُ بِهِ الصَّغَائِرُ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ مُهْلِكَاتٌ.
وَمِنْهَا أَنْ يَتَهَاوَنَ بِسِتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَحِلْمِهِ عَنْهُ وَإِمْهَالِهِ إِيَّاهُ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ إِنَّمَا يُمْهِلُ مَقْتًا لِيَزْدَادَ بِالْإِمْهَالِ إِثْمًا، فَيَظُنَّ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنَ الْمَعَاصِي عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ، وَذَلِكَ لِأَمْنِهِ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَجَهْلِهِ بِمَكَامِنِ الْغُرُورِ بِاللَّهِ.
وَمِنْهَا أَنْ يَأْتِيَ الذَّنْبَ وَيُظْهِرَهُ بِأَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ إِتْيَانِهِ أَوْ يَأْتِيَهُ فِي مَشْهَدِ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ جِنَايَةٌ مِنْهُ عَلَى سِتْرِ اللَّهِ الَّذِي سَدَلَهُ عَلَيْهِ وَتَحْرِيكٌ لِرَغْبَةِ الشَّرِّ فِيمَنْ أَسْمَعَهُ ذَنْبَهُ أَوْ أَشْهَدَهُ فِعْلَهُ، فَهُمَا جِنَايَتَانِ انْضَمَّتَا إِلَى جِنَايَةٍ فَتَغَلَّظَتْ بِهِمَا، فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ تَرْغِيبُ الْغَيْرِ فِيهِ صَارَتْ جِنَايَةً رَابِعَةً وَتَفَاحَشَ الْأَمْرُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُذْنِبُ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ، فَإِذَا فَعَلَهُ بِحَيْثُ يُرَى ذَلِكَ مِنْهُ كَبُرَ ذَنْبُهُ، وَفِي الْخَبَرِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يُنْقِصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا» وَكَمَا يَتَضَاعَفُ وِزْرُ الْعَالِمِ عَلَى الذَّنْبِ فَكَذَلِكَ يَتَضَاعَفُ ثَوَابُهُ عَلَى الْحَسَنَاتِ إِذَا اتُّبِعُوا. فَحَرَكَاتُ الْمُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ فِي طَوْرَيِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ تَتَضَاعَفُ آثَارُهَا إِمَّا بِالرِّبْحِ وَإِمَّا بِالْخُسْرَانِ.